فصل: من الحوادث في زمان أنوشروان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **


 فصل في موت بهرام

قال مؤلف الكتاب‏:‏ ثم إن بَهْرام في آخر مُلْكه ركب للصيد فشدَ على عَيْر وأمعن في طلبه فارتطم في جُبً فغرق فبلغ والدته فسارت إلى ذلك الجُبً بأموال عظيمة وأقامت قريبة منه وأمرت بإنفاق تلك الأموال على مَنْ يُخرجه منه فنقلوا من الجُب طينَاَ كثيرًا وحَمْأةً حتى جمعوا من ذلك آكامًا عظامًا ولم يقدروا على جُثة بَهْرام‏.‏

واختلفوا في ملكه فقال قوم‏:‏ كان ملكه ثماني عشرة سنة وعشرة أشهر وعشرين يومًا‏.‏

وقال آخرون‏:‏ كان ملكه ثلاثًا وعشرين سنة وعشرة أشهر وعشرين يومًا‏.‏

فصل قال بالملك بعده ابنه يَزْدَجِرْد بن بَهْرام جُور فلما عُقِد التاج على رأسه دخل عليه العظماء والأشراف فدعوْا له وهنأوه بالمُلك فردَ عليهم ردًّا حسنًا وذكر أباه ومناقبه وأنه سار فيهم بأحسن السيرة فلم يزل رؤوفًا برعيته مُحسنًا إليهم قامعًا لعدوِّه‏.‏

وكان له ابنان يقال لأحدهما‏:‏ هُرْمز وكان ملكًا على سِجِسْتَان والأخر يُقال له‏:‏ فَيْروز فغلب هُرْمز على المُلك من بعد هلاك أبيه يَزْدَجِرد فهرب فَيْروز منه ولَحِقَ ببلاد الهياطلة وأخبر مَلِكها بقصًته وقصَّة أخيه هُرْمز وأنه أوْلى النَّاس منه وسأله أن يمده بجيش يقاتل لهم هرمز فأبى إلى أن أخبر أنّ هُرْمز ظلوم جائر فقال‏:‏ إِنّ الجوْر لا يرضاه اللّه‏.‏

فأمدَ فيروز بجيش فأقبل بهم وقاتل هُرْمز أخاه فقتله وشتتّ جمعه وغلب على الملك‏.‏

وكان مُلك يَزْدَجِرد ثماني عشرة سنة وأربعة أشهر‏.‏

وقيل‏:‏ سبع عشرة بعد أن قَتَلَ أخاه‏.‏

وقيل‏:‏ بل حبسه لما ظفر به وأظهر العدل وقسم الأموال في زمان قَحط نزل بهم ثم قاتل الهياطلة الذين كانوا أعانوه على قتال أخيه فقتلوه في المعركة‏.‏

وقيل‏:‏ سقط في خندق فهلك وكان ملكه ستًا وعشرين سنة وقيل‏:‏ إحدى وعشرين سنة‏.‏

 فصل

ثم ملك بعده ابنه بَلاش بن فَيْروز وكان قُبَاذ قد نازعه المُلك فغلب بَلاش وهرب قُباذ إلى ملك الترك فلم يزل بَلاش حسن السيرة فبلغ من مراعاته للرعيَّة أنّه كان لا يبلغه أنَّ بيتًا خرب وجَلاَ أهلُه عنه إلا عاقب صاحب القرية التي فيها ذلك البيت على تَرْكِه إنعاشهم حتى اضطروا إلى ذلك الجلاء‏.‏

وبنى بالسوَّاد مدينة اسمها اليوم‏:‏ ساباط وهي قريبة من المدائن‏.‏

وكان ملكه أربع سنين‏.‏

 

فصل

ثم ملك بعده أخوه قُباذ بن فَيْروز وكان قُباذُ لما هرب إلى مَلِك الترك من أخيه بَلاش ومعه جماعة يسيرة فيهم زَرْمِهْر فتاقت نفسه إلى الجماع فشكا ذلك إلى زَرْمِهْرم وسأله أن يلتمس له امرأة ذات حسب فمضى إلى امرأة صاحب منزله كان رجَلاَ من الأساورة وكانتَ له بنت فائقة في الجمال فتنصح لها في ابنتها وأشار عليها أن تبعث بها إلى قباذ فأعلمت زوجها فلم يزل زَرمهرُ يُرَغب المرأةَ وزوجَها ويشير عليهما حتى قَفَلا وصارت البنت إلى قُباذ واسمُها‏:‏ نيونْدُخْت فغشيَها قُباذ فيِ تلك الليلة فحملَت بأنوشِرْوانَ فأمر لها بجائزة وأحبها حبًا شديدًا ثم إن ملك الترك وجه معه جيشًا فانصرف وسأل عن الجارية فقالِ‏:‏ وضعت غلامًا فأمر بحملها إليه فأتت بأنوشروان تقوده إليه فأخبرته أنه ابنه فإذا هو قد نَزَع إليه في صورته‏.‏

وورد الخبر عليه بهلاك بَلاش فتيمًن بالمولود وأمر بحمله وحَمْل أمه فلما صارا إلى المدائن واستوثق له أمره بنى مدينة الرّجان ومدينة حُلوان ومدائن كثيرة‏.‏

ولما مضى من ملكه عشر سنين أرادوا إزالته عن ملكه لاتباعه لرجل يقال له‏:‏ مَزدك بن مَاردا  فصل

وكان مَزدَك رجلأ يدعو الناس إلى ملة زرادشت الذي ذكره تقدم ودعواه نبوة المجوس وكان مز دك يلبس الصوف ويتزهًد ويُكثر الصلاة تقربًا إلى العوام وكان هو وأصحابه يزعمون أنه مَنْ كان عنده فضل من الأموال والأمتعة والنساء فليس هو بأولى به من غيره وحثً النَاس على التأسي به في أموالهم وأهلهم وزعم أنه من البر الذي يرضاه الله ويثيب عليه فاغتنم السفَلة ذلك وتابعوا مَزْدَكًا وأصحابه فتَم للعَاهِر قضاء نهمته بالوصول إلى الكرائم فابتُلَي الناس بهم وقويَ أمرُهم حتى كانوا يدخلون على الرجل داره فيغلبون على أمواله وأهله وحملوا قُباذ على تزيين ذلك وقالوا له‏:‏ إِنَك قد أثمت فيما مضى وليس يطهًرك من هذا إلا إباحةُ نسائِك وأرادوه على أن يدفَع نفسَه إليهم فيذبحوه ويجعلوه قربانَاَ للنَار وكان قُباذ من خيار ملوكهم حتى حمله مَزدَك على ما حمله فانتشَرت الأطراف وفسدت الثغور‏.‏

وكانت أم أنوشروان يومأ بين يدي قُباذ فدخل عليه مزدك فلما رآها قال لقباذ‏:‏ ادفعها إِليَ لأقضي حاجتي منها‏.‏

فقال‏:‏ دونكها‏.‏

فوثب أنوشروان فجعل يسأله ويضرع إليه أن يهب له أمه إلى أن قبًل رجله فتركها فبقي ذلك في نفس أنوشروان فلما رأى زَرْمَهر ذلك خرجِ بمن يتابعه من الأشراف فقتل من المزدكية ناسًا كثيرًا ثم حرشت المَزْدَكية قُباذاَ على زَرْمهر فقتله وغزا قُباذ الروم وبنى آمد وملك قُباذ ابنه كسرى وكتب إليه بذلك كتابًا وختمه وهَلَكَ بعد أن ملك ثلاثًا وأربعين سنة‏.‏

 فصل

ثم ملك ابنه كِسْرَى أنُوشِرْوان بن قُباذَ بن فَيْروزَ بن يَزْدَجِرْد بن بَهْرام جُور‏.‏

وولد أنُوشِرْوان باسعراس وهي من كور نيسابور‏.‏

فاستقبل الملك بجد وسياسة وحزم ونظر في سيرة أرْدشير فأخذ نفسه بذلك وبحث في سياسات الأمم فاختار ما رضيه وفرق رئاسة البلاد بين جماعة وقوى المقاتلة بالأسلحة والكراع وارتجع بلادأ كانت في مملكة الفرس بلغه أن طائفة من العرب أغارت على بعض حدود السواد من ملكه فأمر بحفر النهر المسمى بالحاجز وإعادة المناظر والمسالح على ما ذكرنا في أخبار ذي الأكتاف وعرف الناس منه رأيًا وحزمًا وعلمًا وعقلًا وبأسًا مع رأفة ورحمة‏.‏

فلما عُقد التاج على رأسه دخل عليه العظماء والأشراف فدعوا له فقام خطيبًا فبدأ بذكر نعمة الله على خلقه عند خلقه إياهم وتوكله بتدبير أمورهم وتقدير أقواتهم ومعايشهم ثم أعلم الناس بما ابتلوا به من ضَياع أمورِهم وامحاءِ دينهم وفسادِ حالهم في أولادهم ومعايشهم وأعلَمُهم أنه ناظر فيما يُصلح ذلك ويَحْسِمُه‏.‏

ثم أمر برؤوس المَزْدكيّة فضُرِبَتْ أعناقهم وإبطال ملة زرادشت التي كان ابتدعها في المجوسية في زمان بشتاسب وقد سبق ذكر ذلك كله وكان ممن دعا الناس إليها مزَدك ولما ولي أنوشروان دخل عليه مزدك والمنذر بن ماء السماء فقال أنُوشِروان‏:‏ قد كنت أتمنى أن أملك فأستعمل هذا الرجل الشريف وأتمنى أن أقتل هؤلاء الزنادقة فقال مزدك‏:‏ أوتستطيع أن تقتل الناس جميعًا فقال‏:‏ وإنك ها هنا يا ابن الزانية والله ما ذهب نتن ريح جوربك من أنفي منذ قَبًلْتُ رجلك إلى يومي هذا‏.‏

وأمر بقتله وصلبه‏.‏

وقتل من الزنادقة ما بين جازر إلى النهروان وإلى المدائن في ضحوة واحدة مائة ألف زنديق وصلبهم وقسمت أموالهم في أهل الحاجة‏.‏

وقتل جماعة ممن دخل على الناس في أموالهم وردّ الأموال إلى أهلها وأمر بكل مولود اختلف فيه عنده أن يلحق بمن هو منهم إذا لم يُعرفْ أبوهُ وأنْ يُعطَى نصيبًا من مال الرجل الذي يُسندُ إليه إذا قبله الرجل وبكل امرأة غلبتْ على نفسِها أن يُؤخَذ الغالبُ لها حتى يغرمَ لها مهرَهَا ثم تُخير المرأة بين الإقامة عنده وبين التزويج بغيره إِلَأ أن يكون لها زوج أوَّل فَتُردُ إليه وأمر بكلّ مَنْ كان أضر برجل في ماله أو ركب مظلمة أن يُؤخذ منه الحق ثم يُعاقب وأمر بعيال ذوِي الأحساب الذين مات قَيمهم فكُتبوا له فأنكح بناتهم الأكفاء وجعل جهازهم من بيت المال وأنكح نساءهم من بيوتات الأشراف وأغناهم وخَير نساء والده أن يُقِمْن مع نسائه فيواسَيْن أو يبتغي لهنَّ أكفاء هنَ من البعولة وأمر بكَرْي الأنهار وحفر القنيّ وإسلاف أصحاب العمارات وتقويتهم وبإعادة كلّ جسْر قطع أو قنطرة كسرت أو قرية خربت أن يرد ذلك إلى أحسن ما كان عليه من الصلاح وتفقّد الأساورة فقوَاهم بالدوابِّ والعدَة ووكَل ببيوت النيران وبنى في الطرق القصور والحصون وتخير الحُكام والعُمال وتقدم إلى مَنْ وُليَ منهم أبلغ تَقدُم وبعث رجلًا من الحكماء إلى الهند فاستنَسخ له كتاب كليلة ودمنة طلبأ لما فيه من الحكمة فلما استوثق له المُلْك ودانت له البلاد سار نحو أنطاكية بعد سنتين من مُلْكه وكان فيها عظماء جنود قَيْصر فافتتحها ثم أمر أن تُصَوَّر له مدينة أنطاكيةَ على ذرعها وعدد منازلها وطرقها وجميع ما فيها وأن يبتنى له على صورتها مدينة إلى جَنْب المدائن فبُنِيت المدينة المعروفة برومية على صورة أنطاكيَة ثم حمل أهل أنطاكية حتى أسكنهم إياها‏.‏

فلما دخلوا باب المدينة مضى أهل كل بيت منهم إلى ما يشبه منازلهم التي كانوا فيها بأنطاكيَة كأنَهم لم يخرجوا عنها‏.‏

ثم قصد مدينة هرقل فافتتحها ثم الإسكندرية وما دونها وخفَف طائفة من جنوب بأرض الروم بعد أن أذعن له قَيْصر وحمل إليه الفدية ثمّ انصرف من الروم فأخذ نحو الخَزر فأدرك منهم ما كانوا وتروه في رعيًته ثم انصرف نحو عَدد فقتل عظماء تلك البلاد ثم انصرف إلى المدائن وملَك المنذر بن النعمان على العرب وأكرمه ثم سار إلى الهياطلة مطالبًا لهم بوَتر جده فيروز في القديم وبنى الإيوان الموجود اليوم‏.‏

فصل في سبب بناء الإيوان قال‏:‏ وبينا كسرى أنوشروان جالسًا في إيوانه القديِم البناء إذ وقعت عيناه على ورثة فقال لغلام كان على رأسه‏:‏ هات تلك الورثة‏.‏

فمضى الغلام فلم يرها فعاد فقال‏:‏ لم أرها‏.‏

فقال‏:‏ ويحك هي تلك‏.‏

وأشار إليها فأبصرها الغلام في حضرته فلما انتهى إليها لم يرها‏.‏

فقام أنوشروان بنفسه ومشى إلى البستان فحين مد يده ليقطعها وقع الإيوان فنظر إلى شيء من لطف الله عز وجل فعجب وسُر سرورًا شديدًا وتصدَّق بمال جزيل ثم أعاد بناء الإيوان أفضل من بنائه الأول وهذا هو الإيوان الموجود اليوم فلما فرغ منه رفع رأسه يومأ فرأى حمامة وحشية فوق المشرف وإذا حيَّة عظيمة قد دنت إلى الحمامة لتثب عليها وتبتلعها فرمى الحية بقوس البندق فسقطت إلى الأرض وطارت الحمامة سليمة فسُرّ بإحسانه إلى الحمام ثم جاءت الحمامة بعد خمسة أيام فقعدت على تلك الشرفة فلما رآها أنوشروان أخذت ترمي حبًا لا يدرون ما هو فأخذه فزرعه في بستان داره فنبت نباتًا طيب الريح فقال‏:‏ نعم ما كافأتنا الحمامة به حين نجيناها من الهلاك فبحق قيل‏:‏ لن يضيع المعروف وأنا أسأل الله الذي ألهم هذا الطائر من شكرنا أما ألهمه أن يلهم رعيتنا في ذبنَا عنهم وإِخراجنا إياهم من الهلكة في دينهم ودنياهم إلى الهدى لشكرنا وأن يلهمنا نحن الصبر على الإحسان إليهم‏.‏

ولم يزل مظفرًا منصورًا يهابه الأمم يحضر بابه من وفدهم عدد كبير من الترك والصين والخَزر وكان مكرمًا للعلماء وملك ثمانيا وأربعين سنة‏.‏

وقيل‏:‏ سبعا وأربعين سنة وثمانية أشهر وعشرة أيام‏.‏

إنه كان مكتوبًا على سرير كسرى‏:‏ الدين لا يتم إلا بالملك والملك لا يتم إلا بالرجال والرجال لا يتمون إلا بالمال والمال لا يجيء إلا بعمارة الأرض والعمارة لا تتم إلا بالعدل‏.‏

وكان على جانبه مكتوب‏:‏ عدل السلطان أنفع للرعية من خصيب الزمان‏.‏

ورفع إلى كسرى أن عامل الخراج بالأهواز قد جنى فضل ثمانية آلاف درهم على ما يجب من الخراج فوقع بردّ المال وقال‏:‏ إن الملك إذا عمَر بيوت أمواله بما يأخذ من الرعية كان كمن عمَر سطح داره بما يقلعه من قواعد بنائه‏.‏

ومات لكسرى ولد فلم يجزع عليه فقيل له في ذلك فقال‏:‏ من أعظم الجهل شغل القلب بما لا مرد ّله‏.‏

وكان يقول‏:‏ الغم مدهشة للعقل مدهشة للطبع مقطعة للحيلة فإذا ورد على العاقل ما يحتاج فيه إلى الحيلة قمع الحزن وفرغ العقل للحيلة‏.‏

وقال‏:‏ القليل مع قلة الهم‏.‏

أهنأ من الكثير مع عدم الدعة‏.‏

وقال‏:‏ لما فرغت من إصلاح الأمور الخاصة والعامة إلى قبول ما لا خير فيه إلا بالأكثر لكنني آثرت طاعة الله‏.‏

ونظرنا في سير الروم والهند فاصطفينا محمودها ومن أعظم الضرر على الملوك الأنفة مع العلم‏.‏

أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك قال‏:‏ أخبرنا جعفر بن أحمد السراج قال‏:‏ أخبرنا عبد العزيز بن الحسين الضراب قال‏:‏ حدًثنا أبي قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن مروان قال‏:‏ أخبرنا إسماعيل بن يونس قال‏:‏ أخبرنا الرقاشي عن الأصمعي قال‏:‏ كان لكسرى جامان من ذهب يأكل فيهما فسرق رجل من أصحابه جامًا وكسرى ينظر إليه فلما رفعت الموائد افتقد الطباخ الجام ورجع يطلبه فقال له كسرى‏:‏ لا تَعْنَ قد أخنه من لا يرده ورآه من لا يفشي عليه‏.‏

فدخل الرجل إليه بعد ذلك وقد حلَى سيفه ومنطقته ذهبًا فقال له كسرى بالفارسية‏:‏ يا فلان بعني السيف والمنطقة من ذاك قال‏:‏ نعم‏.‏

ولم يفطن بذلك أحد غيرهما وسكت‏.‏

وروى إبراهيم بن عبد الصمد قال‏:‏ لما عمل كسرى القاطول أضر ذلك بأهل الأسافل فانقطع عنهم الماء حتى افتقروا وذهبت أموالهم فخرج أهل ذلك البلد إلى كسرى يتظلمون فوافوه وقد خرج فتعرضوا له وقالوا‏:‏ جئنا متظلمين‏.‏

فقال‏:‏ ممَنْ قالوا‏:‏ منك‏.‏

فثنى رجله ونزل عن دابته وجلس على الأرض فأتاه بعض من معه بشيء يقعد عليه فأبى وقال‏:‏ لا أجلس إلا على الأرض إذا أتاني قوم يتظلمون مني ثم قال‏:‏ ما مظلمتكم قالوا‏:‏ أحدثت القاطول فقطع عنا شربنا وذهبت معايشنا‏.‏

قال‏:‏ فإني آمر بسده‏.‏

قالوا‏:‏ لا يحسمك هذا ولكن مُر مَنْ يعمل لنا مجرى ماء من فوق القاطول ففعل فعمرت بلادهم‏.‏

وكان كسرى يقول‏:‏ قد خفت أن يُحجب عني المظلوم‏.‏

فعلق على أقرب البيوت من مجلسه سترًا وعلق عليه الأجراس ونادى مناديه‏:‏ مَنْ ظُلم فليحرك هذا الستر‏.‏

ومن الحوادث في زمانه‏:‏ أنه رفع إليه صاحب الخبر بنياسبور أنه أقد ظهر رجل لا يغادر صورته شيء من صورة الملك وأن اسمه أنوشروان وأنه حائك وأنه ولد في ساعة كذا وكذا من يوم كذا وكذا من سنة كذا وكذا فنظر أنوشروان فوجد مولده لا يغادر شيئأ من مولده فوجّه رجلين من أهل الدين والأمانة إلى نيسابور ليكتبا إليه بخبر الرجل فلم يلبث أن جاءه كتاب الأمينين بصدق ما كتب صاحب الخبر وزادا‏:‏ أنا سألنا عن مذهب هذا الإنسان فأخبرونا ثقات جيرانه ومعامليه أنه من الصحة في المعاملة وصدق اللهجة والستر السداد بحيث لا يعرفون من يقاربه في أهل صناعته‏.‏

فتعجب أنوشروان فكتب إلى العامل أن يدفع إلى هذا الرجل عشرة آلاف درهم وأن يجري له ذلك في كل سنة وأن يخيًر إن أحب أن لا يحُوك ويجري عليه زيادة من المال ما يكون وراء كفايته‏.‏

فأحضره عامل نيسابور وأقبضه المال ورفع مجلسه وقال‏:‏ إن الملك أنوشروان يخيرك أن تدع هذه الصناعة ويزيدك ما يرضيك فما الذي تراه فجرى الملك خيرأ فقال‏:‏ ما أحب أن يكون مكافأتَي للملك على إغنائه إياي نقض شيء من سنته متكلأ على مال الملك ولولا أن برك اسمي في مضاهاة اسم الملك قد ظهر علي لاستبدلت به تنزيهًا لجلالة اسم الملك أن يكون مثلي سميه‏.‏

فكتب بخبره إلى أنوشروان فأمر الملك أن يجعل أنوشروان الحائك عريف الحاكة ورئيسهم فأفاد مالًا جليلًا ولم يدع صناعته‏.‏

ومات في السنة التي مات فيها أنوشروان ومن الحوادث‏:‏ أن كسرى أنوشروان خرج يتصيد‏.‏

أخبرنا محمد بن ناصر قال‏:‏ أخبرنا محفوظ بن أحمد قال‏:‏ أخبرنا محمد بن الحسين الخالدي قال‏:‏ حدثنا المعافى بن زكريا قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن كامل قال‏:‏ حدثني محمد بن موسى بن حماد القيسي قال‏:‏ أخبرنا محمد بن أبي السري قال‏:‏ أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال‏:‏‏.‏

خرج كسرى في بعض أيامه للصيد ومعه أصحابه فعن له صيد فتبعه حتى انقطع عن أصحابه وأظلته سحابة فأمطرت مطرًا شديدأ حال بينه وبين أصحابه فمضى لا يدري أين يقصد فرفع له كوخ فقصده فإذا عجوز بباب الكوخ جالسة فقال لها‏:‏ أنزل‏.‏

قالت‏:‏ انزل‏.‏

فنزل فدخل الكوخ وأدخل فرسه فأقبل الليل فإذا ابنة العجوز قد جاءت معها بقرة قد رعتها بالنهار فأدخلتها الكوخ وكسرى ينظر إليها فقامت العجوز إلى البقرة ومعها إناء فاحتلبت البقرة لبنًا صالحأ وكسرى ينظر فقال في نفسه‏:‏ ينبغي أن تجعل على كل بقرة إتاوة يعني خراجًا فهذا حلاب كبير‏.‏

وأقام مكانه حتى مضى اكثر الليل فقالت العجوز‏:‏ يا فلانة قومي إلى فلانة تريد البقرة فاحتلبيها‏.‏

فقامت إلى البقرة فوجدتها حائل لا لبن فيها فنادت‏:‏ يا أماه قد والله أضمر لنا الملك شرًا‏.‏

فقالت‏:‏ وما ذاك‏.‏

قالت‏:‏ هذه فلانة حائل تبيس بقطرة‏.‏

فقالت لها‏:‏ امكثي فإن عليك ليلًا‏.‏

فقال كسرى بني نفسه‏:‏ من أين علمت ما أضمرت في نفسي أما إني لا أفعل ذلك‏.‏

قال‏:‏ فمكثت ثم نادتها‏:‏ يا بنية قومي إلى فلانة فاحتلبيها‏.‏

فقامت إليها فوجدتها حافل‏.‏

فقالت‏:‏ يا أمّاه قد والله ذهب ما كان في نفس الملك من الشر هذه فلانة حافل‏.‏

فاحتلبتها وأقبل الصبح وتتبع الرجال أثر كسرى حتى أتوه بركب فأمر بحمل العجوز وابنتها إليه فأحسن إليهما وقاد‏:‏ كيف علمت أن الملك قد أضمر شرًا وأن الشر الذي أضمره قد رجع فيه‏.‏

قالت العجوز‏:‏ إنا بهذا المكان منذ كذا وكذا ما عمل فينا بعدل إلا أخصب بلدنا واتسع عيشنا وما أمر فينا بجور إلا ضاق عيشنا وانقطعت موادنا والنفع عنا‏.‏

ومن الحوادث‏:‏ أن كسرى أمر جنوده أن لا يتعرضوا لزرع أحد فمر فارس منهم بمبطخة فأخذ بطيخة فتعلق به صاحب البطيخة وقال‏:‏ بيني وبينك الملك‏.‏

فبذل له ألف درهم فلم يقبل فبذل له إلى عشرة آلاف درهم فلم يقبل‏.‏

فحمله إلى الملك فقص عليه القصة فقال للفارس‏:‏ ما حملك على ما فعلت‏.‏

قال‏:‏ دنو الأجل‏.‏

قال‏:‏ فكم بذلت فيها قال‏:‏ عشرة آلاف درهم وما أملك غيرها‏.‏

فقال كسرى للأكار‏:‏ ويحك ما الذي زهدك في عشرة آلاف درهم ورغبك في دم هذا البائس قال‏:‏ ما رغبت في دمه ولكني كنت فقيرأ ولم أر إلا الخير في أيام الملك فأردت أن أزيد في شرف أفعاله حتى يقال أن في أيامه بلغت بطيخة عشرة آلاف درهم‏.‏

فاستحسن ذلك منه وقال للفارس‏:‏ أعطه ما بذلت‏.‏

وأعطاه مثل ذلك‏.‏

 من الحوادث في زمان أنوشروان

ولادة عبد الله بن عبد المطلب أبي نبينا صلي الله عليه وسلم فإنه ولد في السنة الخامسة عشرة من ملكه وولد نبينا صلى الله عليه وسلم في سنة أربعين من ملك أنوشروان وهو عام الفيل‏.‏

ومن الحوادث في زمن أنوشروان‏:‏ أن ملك اليمن لم يزل متصلًا لا يطمح فيه طامح حتى ظهرت الحبشة على بلادهم في زمن أنوشروان‏.‏

قال هشام بن محمد‏:‏ وكان سبب ظهورهم أن ذا نواس الحميري ملك اليمن في ذلك الزمان كان يهوديًا فتقدم عليه يهودي أمن أهل نجران يقال له‏:‏ دوس من أهل نجران فأخبره أن أهل نجران قتلوا له بنتين ظلمًا فاستنصره عليهم وأهل نجران نصارى فحمى ذو نواس اليهودية فغزا أهل نجران فأكثر فيهم القتل فخرج رجل من أهل نجران حتى قدم على ملك الحبشة فأعلمه بما نكبوا به وأتاه بالإنجيل قد أحرق النار بعضه فقال له‏:‏ الرجال عندي كثير وليس عندي سفن وأنا كاتب إلى قيصر في البعثة إلي بسفن أحمل فيه الرجال‏:‏ فكتب إلى قيصر في ذلك وبعث إليه بالإنجيل المحرق فبعث له قيصر بسفن كثيرة فبعث معه صاحب الحبشة سبعين ألفَاَ من الحبشة وافر عليهم رجَلَا من الحبشة يقال له‏:‏ أرياط وعهد إليه‏:‏ إن أنت ظهرت عليهم فاقتل ثلث رجالهم وأخرب ثُلثَ بلادهم واسب ثلث نسائهم وأبنائهم فخرج أرياط ومعه جنوده وفي جنوده أبرهة الأشرم فركب البحر وسمع بهم ذُونُواس فجمع إليه حِمْير ومَنْ أطاعه من قبائل اليمن فتناوشوا ثم انهزم ذو نواس ودخل أرياط بجموعه فلما رأى ذُو نُواس ما نزل به وبقومه وجَّه فرسه في البحر ثم ضربه فخاض فيه في ضَحْضَاح حتى أفضى به إلى غَمْره فأقحمه فكان آخر العهد به‏.‏

ووطىء أرياط اليمن بالحبشة فقتل ثلثَ رجالها وأخرب ثلثَ بلادها وبعث إلى النجاشيّ بثلث سباياها فأقام أبرهة ملكًا على صنعاء ومخاليفها ولم يبعث إلى النجاشي بشيء فقيل للنجاشي‏:‏ إنه قد خَلَعَ طاعتك وإنه رأى أن قد استغنى بنفسه‏.‏

فوجَّه إليه جيشًا عليه أرياط فلما حل بساحته بعث إليه أبرهة‏:‏ إنه يجمعني وإياك الدّين والبلد والواجب عليَ وعليك أن تنظر لأهل بلادنا وديننا فإن شئت فبارزني فأيُّنا ظفر بصاحبه كان المُلْك له ولم يقتل الحبشة فيما بيننا فرضيَ أرياط فأجمع أبرهة على المكرْ به فاتَّعدا موضعًا يلتقيان فيه فأكمن أبرهة عبدًا له يقال له‏:‏ أرنجدة في وَهدةٍ قريب من الموضع الذي يلتقيان فيه فلما التقيا سبق أرياط فزرق أبرهة بحربته فزالت الحربة عن رأسه وشرمت أنفه فَسُميَ‏:‏ أبرهة الأشرم ونهض الكمين من الحُفْرة فزرق أرياط فأنفذه وقتله فقال لإرنجدة‏:‏ احتكمْ‏.‏

فقال‏:‏ لا تدخل امرأة باليمن على زوجها حتى يُبدَأ بي‏.‏

قال‏:‏ لك ذلك‏.‏

فغبر بذلك زماناَ ثم إن أهل اليمن عَدَوْا عليه فقتلوه‏.‏

فقاد أبرهة‏:‏ قد آن لكم أن تكونوا أحرارًا‏.‏

فبلغ النجاشيَ قتل أرياط فآلى ألأَ ينتهي حتى يُريق دم أبرهة ويطأ بلاده وبلغ أبرهة آليتُه فكتب إليه‏:‏ أنها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك قد هَم عليَ يُريد توهينَ ملكك وقتل جندك فسألته أن يكفَّ عن قتالي إلى أن أوجّه إليك رسولَاَ فإن أمرته بالكفِّ عنّي وإلّاَ سلمت إليه جميع ما أنا فيه فأبى إلا أن يحاربني فحاربته فظهرت عليه وإنما سلطاني لك وقد بلغني أنك حلفت ألّاَ تنتهي حتى تُريق دمي وتطأ بلادي وقد بعثت إليك بقارورة من دمي وتراب من تراب بلادي وفي ذلك خروجك من يمينك فاستتم أيُّها الملك عندي يدك فإنما أنا عبدك وعزي عزك فرضيَ عنه النجاشي وأقره على عمله‏.‏

فصل قال علماء السير لما رضيَ النجاشي عن أبرهة بنى أبرهة كنيسة لم يُرَ مثلها في زمانها بناها بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود وحلًاها بالذهب والفضة وحفَّها بالجوهر وجعل فيها ياقوتة حمراء عظيمة وأوقد فيها المندل ولطخ جوانبها بالمسك وسمَاها‏:‏ القُليسْ‏.‏

وكتب إلى النجاشي‏:‏ إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يُبْن مثلها لملك كان قبلك ولست بمنتهٍ حتى أصرفَ إليها حاج العرب‏.‏

فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشيّ غضب رجل من بني فقيم فخرج حتى أتاها فأحدث فيها ثم أخرج فلحق بأرضه فخبر بذلك أبرهة فقال‏:‏ مَنْ صنع هذا فقيلَ‏:‏ صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحج إليه العرب بمكة لما سمع من قولك إني أريد أن أصرف إليه حاجَ العرب فغضب فجاء فقعد فيها أي أنها ليست لذلك بأهل فغضب أبرهة وحلف ليسيرَنَ إلى البيت فيهدمه وعند أبرهة رجال من العرب منهم‏:‏ محمد بن خُزاعيّ الذكواني وأخوه قيس فأمَر محمدًا على مضر وأمره أن يسير في الناس يدعوهم إلى حج القلَيْس وهي الكنيسة التي بناها‏.‏

فسارمحمد حتى إذا نزل ببعض أرض بني كنانة وقد بلغ أهل تهامة أمره وما جاء له بعثوا رجلًا من هذيل يقال له‏:‏ عروة بن حياض فرماه بسهم فقتله وهرب أخوه قيس فلحق بأبرهة فأخبره فزاد ذلك أبرهة غيظًا وحلف ليغزوَن بني كنانة وليهدمن البيت‏.‏

فخرج سائرًا بالحبشة ومعه الفيل فسمعت العرب بذلك فأعظموه ورأوْا جهاده حقًا عليهم فخرج رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له‏:‏ ذو نفر إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله تعالى فقابله فهزِم ذو نفر وأصحابه واخذ أسيرًا فقال‏:‏ أيها الملك لا تقتلني فإنَه عسى أن يكون كوني معك خيرًا لك‏.‏

فتركه في وثاق فلما وصل إلى أرض خثعم عرض له نُفيَل بن حبيب الخثعمي ومن تبعه من قبائل العرب فقاتله فهزمه أبرهة وأخنه أسيرًا فقال له‏:‏ لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب‏.‏

فتركه في الحديد حتى إذا مرَّ بالطائف خرج إليه مسعود بن معتّب في رجال من ثقيف فقال‏:‏ أيُّها الملك إنما نحن عبيدك ونحن نبعث منْ يدلّك‏.‏

فبعثوا معه أبا رغال فمضى به حتى أنزله المغمَس فمات أبو رغال هناك فرجمت العرب قبره فهو القبر الذي يَرجُم الناس بالمغمَس‏.‏

ولما نزل أبرهة بالمغمَس بعث رجلًا من الحبشة يقال له‏:‏ الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل مكة أصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب وهو يومئذ كبير قريش وسيدها فهمَت قريش وكنانة وهذيل ومَنْ كان بالحرم من سائر الناس بقتاله ثم عرفوا أنَه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك‏.‏

وبعث أبرهة حُناطة الحميري إلى مكة فقال‏:‏ سلْ عن سيد هذا البلد وشريفهم فقل له‏:‏ إن الملك يقول لكم إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجةَ لي بدمائكم وإن لم يُرِدْ حربي فاتني به‏.‏

فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيّد قريش وشريفها فقيل‏:‏ عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف فجاءه فأخبره بما قال أبرهة فقال عبد المطلب‏:‏ والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم فإن يمنعهُ فهو بيته وحرَمه وإن يخلّ بينه وبينه فو الله ما عندنا من دَفْع عنه‏.‏

قال‏:‏ فانطلق إلى الملك فإنه قد أمرني أن آتيَه بك فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنِيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذيِ نفْر وكان له صديقًا حتى دُلً عليه فجاءه وهو في محبسه فقال له‏:‏ يا ذا نفْر هل عندك غنَاء فيما نزل بنا‏:‏ فقال له ذو نفر‏:‏ ما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوًّا أو عشيّا ما عندي غناء فيما نزل بك إلاَّ أن أنيسًا سائس الفيل لي صديق فسأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلّمه بما تريد ويشفع لك عنده بخيِرِ إن قدر عليه‏.‏

قال‏:‏ حسبي‏.‏

ثم بعث إلى أنَيْس فجاء به فقال‏:‏ يا أنَيْس إن عبد المطلب سيّد قريشَ يطعم الناس بالسّهل والوحوش في رؤوس الجبال وقد أصاب له الملك مائتي بعير فاستأذنْ له عليه وانفعه بما أستطعت‏.‏

قال‏:‏ أفعل‏.‏

فكلّم أنيس أبرهة فقال‏:‏ يا أيها الملك هذا سيّد قريش ببابك يستأذن عليك فأذَنْ له وأحْسِن إليه‏.‏

فأذن له أبرهة وكان عبد المطلب عظيمًا وسيمًا جسيمًا فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه ونزل عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه ثم قال لترجمانه‏:‏ قل‏:‏ ما حاجتك فقال له ذلك الترجمان فقال عبد المطلب‏:‏ حاجتي إلى الملك أن يردَ علي مائتي بعير أصابها ليِ‏.‏

فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه‏:‏ قل له كنت أعجبتني حيِن رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في مائتيِ بعير أصبتها لك وتتركُ بيتأ هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه لا تكلمني فيه فقال له عبد المطلب‏:‏ إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربأ سيمنعه‏.‏

قال‏:‏ ما كان ليمتنع مني‏.‏

قال‏:‏ أنت وذاك أردد إليَ إبلي‏.‏

وكان عبد المطلب قد ذهب معه حين مضى إلى أبرهة عمرو بن نفاثة بن عليّ وهو سيد كنانة وخويلد بن واثلهَ الهذلي وهو سيد هذيل فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تِهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم‏.‏

فلما ردَ أبرهة إبل عبد المطلب انصرف إلى قُريش فأخبرهم بالخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شَعَف الجبال والشعاب تخوفأ عليهم من معرة الجيش ثم قام عبد المطّلب فأخذ بحلْقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده فقال عبد المطلب وهو آخذ بباب الكعبة‏:‏ يآ رب لَا أرْجُو لَهُمْ سواكَا يَا رَب فامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكا إنَ عَدوَ الْبَيْتِ مَن عاداكا أمْنَعْهُمُ أنْ يُخْرِبُوا قُراكا لا هُم إنَّ الْعَبْدَ يَم نَعُ رحلهُ فامْنَعْ رِحَالكْ لا يغلبنَ صَلِيبُهُمْ ومِحالهمْ عَدوًا محالك قال مؤلف الكتاب‏:‏ ويروى غدوأ بالغين يعني غدأ وهي لغةٌ فإن أراد الشاعر أن مع القوم أخوة غدوًا‏:‏ فلِئنْ فَعَلْتَ فربمَا أوْلَى فأمْر ما بدا لَكَ جَروا جُموعَ بِلادِهِمْ والْفِيلَ كَيْ يسبوا عيالكْ عَمَدُوا حِمَاكَ بكَيْدِهِمْ جَهْلًا ومَا رَقِبُوا جَلالكْ إِنْ كُنتْ تَاركَهم وكَعبَتَنَا فامُرْ مَا بَدَا لَكْ‏.‏

ثم أرسل عبد المطلب حَلْقة الباب وانطلق ومَنْ معه من قريش إلى شَعَف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما يفعل أبرهة فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيلَه وعبًأ جيشه فلما وجَّهوا الفيل أقبل نُفيل بن حَبيب الخَثْعَميّ حتى أخذ بأذن الفيل فقال‏:‏ ابْرُكْ وارجعْ من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام‏.‏

فبرك ومضى نُفيل يشتدُ في الجبل فضربوا الفيل ليقومَ فأبى فأدخلوا محاجن في مراقيه ليقوم فأبى فوجّهوه إلى اليمن فقام يهرول ووجّهوه إلى الشام فهرول ووجهوه إلى المشرق فهرول ووجّهوه إلى مكة فبرك فأرسل الله عليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف مع كلّ طائر منهم ثلاثة أحجار‏:‏ حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمّص والعَدَس لا تصيب أحدًا منهم إلّا هلك فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي جاءوا منه ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن فقال نفيل حين رأى ما أنزل اللّه عز وجل بهم من نقمته‏:‏ أيْنَ الْمَفَرّ وَالإلهُ الطَالِبْ وَالأشْرَمُ الْمَغْلوبُ غَيْرُ الغَالبْ‏!‏ وقال نفيل أيضاَ‏:‏ ألا حُييتِ عَنَا يا ردينا نعمنا كمْ مَعَ الإصْباح عَيْنا أتانا قَابِسٌ مِنْكُمْ عِشاء فَلمْ يُقدَر ْلقَابِسِكمْ لدَيْنَا رُديْنَةُ لوْ رَأيْتِ ولَم تَرَيْه لدَى جَنْبِ المحصب ِما رأينا إذأ لَعَنَرْتني وحَمِدْتِ رَايي ولم تأسَي عَلَى مَا فَاتَ بَيْنا حَمِدْتُ اللّه إذ ْعَايَنْتُ طيْرًا وخِفْت حِجَارَةً تُلْقى عَلَيْنَا فكل القَوْم يَسْألُ عن نُفَيْل كأنَّ عَلَيً لِلْحُبْشَانِ دَيْنَا‏!‏ فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منهل وأصيب أبرهة في جسم وخرجوا به معهم تتساقط أنامله أنمُلةً أنُملة كلما سقطت أنملة تبعها دم وقيح حتى قدموا به صنعاء وهو مثل الفرخ فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الجوهري قال‏:‏ أخبرنا أبو عمرو بن حيويه قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال‏:‏ حدَثنا محمد بن سعد قال أخبرنا محمد بن عمر عن أشياخ له‏:‏ أن النجاشي وجه أرياطًا أبا صحم في أربعة آلاف إلى اليمن فغلب عليها فقام رجل من الحبشة يقال له‏:‏ أبرهة الأشرم فقتل أرياطًا وغلب على اليمن فرأى الناس يتجهًزون أيام الموسم فسأل‏:‏ أين يذهب الناس فقيل له‏:‏ يحجُون بيت الله بمكة فقال‏:‏ مَم هو قالوا‏:‏ من حجارة‏.‏

قال‏:‏ وما كسوته قالوا‏:‏ ما يأتي من ها هنا من الوصائل‏.‏

فقال أبرهة‏:‏ والمسيح لأبنيَنَ لكم خيرآَ منه فبنى لهم بيتا عمله بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود وحلاه بالذهب والفضة وحفّه بالجواهر وجعل له أبوابًا عليها صفائح الذهب ومسامير الذهب وجعل فيه ياقوتة حمراء عظيمة وجعل له حُجَّابًا وكان يوقد فيه بالمنْدَل ويلطخ جُمره بالمِسك وأمر الناس أ أن يحجوه فحجه كثير من قبائل العرب سنين ومكث فيه رجال يتعبدون وكان نُفيل الخثعميّ يؤرًض له ما يكره فأمهل فلما كان ليلة من الليالي لم ير أحدًا يتحرّك فقامَ فجاء بعذِرة فلطخ بها قبلته وجمع جِيفأ فألقاها فيه‏.‏

فاخبر أبرهة بذلك فغضب غضبًا شديدًا وقال‏:‏ إنّما فعلت هذا العرب غضبًا لبيتهم لأنقضنّه حجرًا حجرًا‏.‏

فكتب إلى النجاشيّ يخبره بذلك وسأله أن يبعث إليه بفيله محمود وكان فيلًا لم يُرَقط مثله عظمًا وجسمًا وقوة فبعث به إليه فسار أبرهة بالناس ومعه مَلِك حِمْير ونُفَيل بن حبيب الخثعمي فلما دنا من الحرم أمر أصحابه بالغارة على نَعَم الناس فأصابوا إبلًا لعبد المطلب فجاء فقال‏:‏ حاجتي أن ترد إبلي‏.‏

فقال‏:‏ ظننتك كلمتني في البيت‏.‏

فقال‏:‏ إن للبيت ربًا سيمنعه‏.‏

فَردَتْ عليه فأشعرها وجعلها هديًا وبثها في الحرم لكي يُصاب منها شيء فيغضب رب الحرم‏.‏

فأقبلت الطير من البحر كل طائر ثلاثة أحجار‏:‏ حجَران في رجليه وحجر في مِنقاره فقذفِتها عليهم وبعث الله عز وجل سيلًا فذهب بهم فألقاهم في البحر وولى أبرهة هارباَ بمن معه فجعل أبرهة يسقط عضوًا عضوًا‏.‏

 فصل

قال علماء السير‏:‏ لما هلك أبرهة ملك النصرانية في الحبشة ابنه يكسوم فذلّت حمير وقبائل اليمن و وطئتهم الحبشة ثم هلك يكسوم وملك أخوه مسروق بن أبرهة فلما طال البلاء على أهل اليمن وكان ملك الحبشة باليمن فيما بين أن دخل أرياط إلى أن قتلت الفرس مسروقًا وأخرجوا الحبشة من اليمن اثنتين وسبعين سنة توارث ذلك منهم أربعة ملوك‏:‏ أرياط ثم أبرهة ثم يكسوم ثم مسروق خرج سيف بن ذي يَزن الحميري وكان يزن يكنى‏:‏ أبا مُرة حتى قدم على قيصر ملك الروم فشكا إليه ما همْ فيه وطلب إليه أن يخرجَهم عنه و يليهم هو ويبعث إليهم من شاء من الروم ويكون له ملك اليمن فلم يُشْكِه ولم يجد عنده شيئًا مما يريد فخرج حتى قدم الحيرة على النعمان بن المنذر وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق فشكا إليه ما همْ فيه من البلاء والذلّ فقال له النعمان‏:‏ إن لي على كسرى وفادة في كل عام فأقِم عندي حتى أخرج بك معي‏.‏

فأقام عنده حتى خرج به إلى كسرى فلما قدِم النعمان على كسرى وفرغ من حاجته ذكر له سيف ذي يزن وما قدم له وسأله أن يأذنَ له عليه ففعل‏.‏

وكان كسرى إنما يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجُهُ وكان تاجُهُ مثل القنفل العظيم مضروبًا فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ والذهب والفضة معلقًا بسلسلة من ذهب في رأس طاق مجلسه ذلك وكانت عنقه لا تحمل تاجه إنما يُستر بالثياب حتى يجلس في مجلسه ثم يدخل رأسه في تاجه فإذا استوى في مجلسه كشف الثياب عنه فلا يراه أحد إلّا برك هيبة له‏.‏

فلما دخل عليه سيف بن ذي يزن َ برك ثم قال‏:‏ أيُها الملك غلبتْنا على بلادنا الأغربة‏.‏

فقال كسرى‏:‏ أيّ الأغربة الحبشة أم السند‏.‏

قال‏:‏ الحبشة فجئتك لتنصرَني عليهم وتخرجهم عني وتكون لك بلادي فأنت أحب إلينا منهم‏.‏

فقال‏:‏ بعدت أرضك من أرضنا وهي أرض قليلة الخيْر إنما بها الشاء والبعير وذلك مما لا حاجة لنا به فلم أكن لأورّط جيشًا من فارس بأرض العرب لا حاجة لي بذلك‏.‏

فأجيز بعشرة آلاف درهم وكساه كسوة حسنة فلما قبضها خرج فجعل ينثُر الورق للناس فنهبتها الصبيان والعبيد والإماء فلم يلبث ذلك أنْ دخل على كسرى فقيل له‏:‏ العربيّ الذي أعطيته ما أعطيته نثره للناس ونهبته العبيد والصبيان والنساء‏.‏

فقال‏:‏ إنّ لهذا الرجل لشأنًا ائتوني به فلما دخل قال‏:‏ عمَدت إلى حِباء الملِك الذي حبَاك به تنثره للناس قال‏:‏ وما أصنع بالذي أعطاني الملك ما جبال أرضي التي جئت منها إلاّ ذهب وفضة يرغّبه فيها لما رأى من زهادته فيها إنّما جئت إلى الملك ليمنعني من الظلم ويدفع عنّي الذلّ فقال له كسرى‏:‏ أقم عندي حتى أنظر في أمرك‏.‏

فأقام عنده‏.‏

وجمع كسرى مَرَازبته وأهل الرأي ممّن كان يستشيره فاستشارهم في أمره فقال قائل‏:‏ أيها الملك إن في سجونك رجالًا قد حبستهم للقتل فلو أنك بعثتهم معه فإن هلكوا كان الذي أردت بهم وإن ظهروا على بلاده كان مُلكًا ازددته إلى ملكك‏.‏

فقال‏:‏ إنّ هذا الرأي أحصوا لِي كمْ في سجوني من الرجال فحسبوا فوجدوا في سجونه ثمانمائة رجل فقال‏:‏ انظروا إلى أفضل رجل منهم حَسَبًَا وبيتًا فاجعلوه عليهم‏.‏

فنظروا فإذا رجل يقال له‏:‏ وَهْرِز‏.‏

ففعلوا وبعثه مع سيف بن ذي يزن وأمرَهُ على أصحابه ثم حملهم في ثماني سفر فغرقت سفينتان بما فيهما فخلَصوا ستمائة فقال وهْرز لسيف‏:‏ ما عندك قال‏:‏ ما شئتَ من رجل عربيّ وفرس عربيّ ثم أجعل رجلي مع رجلك حتى نموت جميعًا أو نظهر جميعًا‏.‏

قال‏:‏ أنصفت‏.‏

فجمعَ إليه سيف مَنْ استطاع من قومه وسمع بهم مسروق بن أبرهة فجمع جنده من الحبشة وسار إليهم حتى إذا تقاربت العسكران ونزل الناس بعضهم إلى بعض بعث وَهْرِز ابنًا له يقال له‏:‏ نَوْزاذ على جريدة خيل فقال له‏:‏ ناوشهم القتال حتى ننظر كيف قتالهم‏.‏

فخرج إليهم فناوشهم فقتلوه فزاد ذلك وَهْرِز حنقًا عليهم فقال‏:‏ أروني ملكهم‏.‏

فقالوا‏:‏ ترى رجلًا على الفيل عاقدًا تاجَه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء‏.‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قالوا‏:‏ ذاك ملكهم‏.‏

فوقفوا طويلًا ثم قال‏:‏ علام هو‏.‏

قالوا‏:‏ قد تحوّل على فرس‏.‏

فقال‏:‏ اتركوه‏.‏

فوقفوا طويلًا ثم قال‏:‏ علام هو‏.‏

قالوا‏:‏ قد تحوّل على البغلة‏.‏

فقال‏:‏ ابنة الحمار ذلِّ وذلِّ ملكه إني سأرميه فإن رأيتم أصحابه وقوفًا لم يتحرّكوا فاثبتوا حتى أوذنكم فإني قد أخطأت الرجل وإن رأيتم القوم قد استداروا و لآبوا به فقد أصبت الرجل فاحملوا عليهم‏.‏

ثم أوْتَر قوسه وضربه فصكّ الياقوتة التي بين عينيه فتغلغلت النِّشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه فتنكّس عن دابّته واستدارت الحبشة فحملت عليهم الفُرْس فانهزموا وقتلوا وهرب شريدهم في كل وجه فاقبل وَهْرِز يريد صنعاء يدخلها حتى إذا أتى بابها قال‏:‏ لا تدخل رايتي منكّسة أبدًا اهدموا الباب‏.‏

فهمم باب صنعاء ثم دخلها ناصبًا رايتَه بين يديه‏.‏

فلما ملك اليمن ونفى عنها الحبشة كتب إلى كسرى‏:‏ إني قد ضبطت لك اليمن وأخرجت مَنْ كان بها من الحبشة وبعث إليه الأموال‏.‏

فكتب إليه كسرى أن يُملَك سيف بن ذي يزن على اليمن وأرضها وفرض كسرى على سيف بن ذي يزن جِزْية وخراجًا يؤديه في كل عام وكتب إلى وَهْرِز أن ينصرف إليه ففعل وكان ذو يزن أبو سيف من ملوك اليمن‏.‏

وقيل‏:‏ بل الذي قدم على كسرى ذي يزن فمات على بابه فقدم ابنه سيف عليه فقال‏:‏ أنا ابن الشيخ اليماني الذي وعدته النصر فمات ببابك فرق له وأعانه وجرى له ما ذكرنا‏.‏

قال ابن هشام بن محمد‏:‏ لما صعدت السفائن سار إليهم مسروق في ماله ألف من الحبشة وحِميْر والأعراب ولحِق بابن ذي يزن بَشَرٌ كثير ونزل وهرز على سيف البحر وراء ظهره ولمّا نظر مسروق إلى قلتهم طمع فيهم وأرسل إلى وَهْرِز وقال‏:‏ ما جاء بك وليس معك إلّا ما أرى ومعي مَنْ ترى لقد غرّرت بنفسك وبأصحابك فإن أحببت أذِنت لك فرجعت وإن أحببتَ ناجزتُك أو أجلتك حتى تنظرَ في أمرك‏.‏

فقال‏:‏ بل تضرب بيني وبينك أجلًا‏.‏

ففعل‏.‏

فلما مضى من الأجل عشرة أيام خرج ابن وهْرِز حتى دنا من معسكر القوم فقتلوه فلما انقضى الأجل غير يوم أمر بالسفن التي كانوا فيها فأحرقت بالنار وما كان معهم من فضل كسوة فأحرق ولم يدع إلا ما كان على أجسادهم ثم دعا بكل زاد كان معهم فقال‏:‏ كلوا‏.‏

فلما فرغوا أمر بفضله فألقيَ في البحر ثم قال‏:‏ أما ما أحرقت من سفنكم فإني أردت أن تعلموا أنه لا سبيل إلى بلادكم وأمَا ما أحرقت من ثيابكم فإنَه كان يغيظني إن ظفرت بكم الجيش أن يصير ذلك إليهم وأمّا ما ألقيت من زادكمِ في البحر فإنّي كرهت أن يطمع أحد منكم أن يكون معه زاد يعيش به يومًا واحداَ فإن كنتم تقاتلون معي وتصبرون أعلمتموني ذلك وإن كنتم‏.‏

تفعلون اعتمدت على سيفي هذا حتى يخرج من ظهري فإني لم أكن لأمكنَهم من نفسي‏.‏

فقالوا‏:‏ بل نقاتل معك حتى نموت عن آخرنا أو نظفَر‏.‏

فلما أصبح عبىَ أصحابه وجعل يقول‏:‏ إما ظفرتم وإما متم كرامًا‏.‏

ثم رمى ملك القوم فسقط وهزموا وغنم من عسكرهم ما لا يحصى وغلب على صنعاء وبلاد اليمنْ‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ لما انصرف وَهْرِز إلى كسرى وخلف سيفًا على اليمن عدا على الحبشة فجعل يقتلهم إلا بقايا ذليلة فاتخذهم خَوَلا‏.‏

وجعل منهم قومًا يمشون بين يديه بالحراب فلما كان يومًا في وسطهم وجأوه بالحراب فقتلوه ووثب رجل من الحبشة فأفسد في اليمن فبلغ الأمر كسرى فبعث إليهم وَهْرِز في أربعة آلاف من الفُرْس وأمره ألأَ يترك باليمن أسود ولا ممن شرك ولما احتضر وَهْرِز دعا بقوسه ونشابته وقال‏:‏ أجلسوني‏.‏

فأجلسوه فرمى وقال‏:‏ هناك‏.‏

فوقعت نشَابتُه وراءَ الدَّيْر فهذا هلك بعث كسرى إلى اليمن أسوارًا يقال له‏:‏ زين وكان جبارًا مُسْرِفا ً فَعَزَلَهُ واستعمل المروُزان بن وَهْرِز فلَّما هَلَكَ أمر بعده ابنه البينجان بن المرزبان فلما هَلك أجمّر بعده خُر خسْرَه‏.‏

ثم إن كسرى غضِب عليه فحلف ليأتينَه به أهلُ اليمن يحملونه على أعناقهم ففعلوا فلما قدِموا على كسرى تلقاه رجل من عظماء فارس فألقى عليه سيفًا لأبي كسرى فأجاره كسرى بذلك من القَتْل ونزعه وبعث باذان إلى اليمن فلم يزل عليها حتى بعث الله عز وجل محمدًا صلى الله عليه وسلم‏.‏

فصل أنوشِرْوان و يخطيانوس قال علماء السير‏:‏ وكان بين كسرى أنوشِرْوان وبين يخطيانوس ملك الروم هدنة و مودعة فوقع بين رجل كان ملَّكه ملك الروم يقال له‏:‏ خالد بن جَبَلة وبين رجل كان ملَكه كسرى يقال له‏:‏ المنذر بن النعمان نائرة فأغار خالد على حيز المنذر فقتل من أصحابه مقتْلة عظيمة وغَنِم أموالًا فشكا ذلك المنذر إلى كسرى فكتب كسرى إلى ملك الروم يذكر ما بينهما من العهد ويعلمه ما لقي عامله المنذر ويسأله أن يأخذ خالد بأن يرد على المنذر ما غنم من حيزه ويدفع إليه دية مَنْ قتل وأن لا يستخف بما كتب إليه فيكون في ذلك انتقاض ما بينهما من العهد‏.‏

ثم واتر الكُتب بذلك فلم يحفل بها ملك الروم فغزاه كسرى في بضعة وتسعين ألف مقاتل فأخذ مدينة دارا ومدينة الرهاء ومدينة مَنْبج ومدينة قِنسرين ومدينة حَلب ومدينة أنْطاكِيَة وكانت أفضل مدينة بالشام ومدينة فامِية ومدينة حِمْص ومدنًا كثيرة واحتوى على ما كان منها وسَبَى أهل مدينة أنطاكِيَة ونقلَهم إلى أرض السواد وكان ملك الروم يؤدي إليه الخراج وكان قُباذ قد أمر في آخر ملكه بمسْح الأرض سهلها و وعرها ليصح الخراج عليها فمُسِحَت غير أن قُباذ هَلَك قبل أن يستحكم أمر المساحة فلما ملك كسرى أمر باستتمامها وإحصاء النخل والزيتون ثم استشار الناس وقال‏:‏ نريد أن نجمع من ذلك في بيوت أموالنا ما لو أتانا عن ثَغْر أو طرف فَتق كانت الأموال عندنا مُعَدَّة‏.‏

فاجتمع رأيهم على وضع الخراج على ما يعصم الناس والبهائم وهو الحنطة والشعير والأرز والكرم و الرطاب والنخل والزيتون فوضعوا عن كل جريب أرض رطاب سبعة دراهم وعلى كل أربع نخلات فارسي درهمًا وعلى كل ست نخلات دقل مثل ذلك وعلى كلّ ستة أصول زيتون مثل ذلك ولم يضعوا إلأَ على النخل الذي تجمعه الحديقة دون الشاذ وألزموا الناس الجِزْية ما خلا أهلَ البيوتات والعظماء والمقاتلة والهرابذه والكتاب ومَن ْ كان في خدمة الملك وصيروها على طبقات‏:‏ اثني عشر درهمًا وثمانية وستة وأربعة على قدر إكثار الرجل وإقلاله ولم يلزم الجزية مَن ْ كان له من السن دون العشرين وفوق الخمسين واقتدى بجمهور هذه الأشياء عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

قالوا‏:‏ وكان كسرى ولى رجلًا من الكتاب ذا كفاية يقال له‏:‏ بابك بن البيروان ديوان المقاتلة فاستعرض العسكر ولم ير كسرى فيهم‏.‏

فقال‏:‏ انصرفوا فاستعرضهم في اليوم التالي فلم ير كسرى فيهم فقال‏:‏ انصرفوا وأمر مناديهم فنادوا في اليوم الثالث‏:‏ لا يتخلفن أحد ولا من أكرم بتاج وسرير‏.‏

فبلغ ذلك كسرى فوضع تاجه وتسلَح بسلاح المقاتلة ثم أتى بابك ليعرض عليه وكان الفارس يؤخذ بالسلاح التام فجاء كسرى بسلاح يعوزه شيء يسير فقال‏:‏ أيُّها الملك إنك واقف مقام المعْدلة التي لا محاباة فيها فهلمَ كلما يلزمك من الأسلحة‏.‏

ففعل فلما قام بابك إلى كسرى قال‏:‏ إن غِلْظتَي في الأمر الذي أغلظت فيه اليوم عليك‏.‏

إنما كان لينفذ أمري الذي وضعتني له‏.‏

فقال كسرى‏:‏ ما غلُظ علبنا أمر أريد به تدبر صلاح رعيتنا‏.‏

قالوا‏:‏ ولم يكن ببلاد الفرس بناتُ آوى فتساقط إليها من بلاد الترك في زمان كسرى فشق على كسرى وسأل موْبَدان عن ذلك فقال‏:‏ متى تغير عدل بجور تساقط إلى أرباب ذلك ما يكرهون‏.‏

فأمر كسرى عماله أن لا يتعدوا العدل‏.‏

ومن الحوادث في زمن كسرى أنوشروان‏:‏ أنه غضب على وزيره بزرجمهر فقبض عليه وقال‏:‏ الحمد لله الذي أظفرني بك‏.‏

فقال له‏:‏ فكافئه بما يحب كما أعطاك ما تحب‏.‏

قال‏:‏ بماذا قال‏:‏ بالعفو فحبسه في بيتَ كالقبر وصفده بالحديد وألبسه الخشن من الصوف وأمر أن لا يزاد في كل يوم على قرصين من الخبز وكف ملح جريش ودورق ماء وأن تنقل ألفاظه إليه فأقام شهورًا لا يسمع له لفظة فقال أنوشروان‏:‏ أدخلوا عليه أصحابه ومروهم أن يسألوه ويفاتحوه الكلام و عربونيه‏.‏

فدخل عليه جماعة من المختصين به فقالوا له‏:‏ أيها الحكيم نراك في هذا الضيق والحديد والشدة وسحنة وجهك و صبحة جسمك على حالها لم تتغير فما السبب فقال‏:‏ إني عملت جوارشنا من ستة أخلاط فأخذت منه في كل يوم شيئأ فهو الذي أبقاني على ما ترون‏.‏

قالوا‏:‏ فصفه لنا‏.‏

قال‏:‏ الخلط الأول‏:‏ الثقة باللّه عز وجل‏.‏

والثاني‏:‏ علمي بأن كل مقدر كائن‏.‏

والثالث‏:‏ الصبر خير ما استعمل الممتحن‏.‏

والرابع‏:‏ إن لم أصبر فأي شيء أعمل ولم أعين على نفسي بالجزع‏.‏

والخامس‏:‏ قد يمكن أن يكون في شر مما أنا فيه‏.‏

والسادس‏:‏ من ساعة إلى ساعة فرج‏.‏

ثم إنه قتله‏.‏

وكان بزرجمهر حكيمًا فمن كلامه‏:‏ أنه قيل له‏:‏ من أحب الناس إليك أن يكون عاقلًا‏.‏

قال‏:‏ عدوي لأني أكون منه في دعة‏.‏

وقال‏:‏ إن كان شيء فوق الحياة فالصحة وإن كان مثلها فالغنى وإن كان شيء فوق الموت فالمرض وإن كان مثله أجل العلوم‏.‏

والثانية‏:‏ إذا كان الرزق خطًا مقسوماَ فالحرص باطل‏.‏

والثالثة‏:‏ إذا كانت الأمور بمقادير اللّه ومشيئته فما آفاتنا ومصائبنا إلا لعلل وأسباب عرفناها أو جهلناها‏.‏

والرابعة‏:‏ إذا كان الإنسان عن تركيب مختلف فطلب الحالة الواحدة منه محال‏.‏

وقال بزرجهمر‏:‏ أدل الأشياء على عقل الرجل التدبير‏.‏

وقال بزرجمهر‏:‏ ينبغي للعاقل أن يكون كعابر نهر أو قاطع رحل‏.‏

وقال‏:‏ مداراة الناس نصف العقل‏.‏

وقال‏:‏ لا ينبغي للعاقل أن يسكن بلدًا ليس فيه خمسة‏:‏ سلطان صارم وقاض عادل وسوق قائمة ونهر جار وطبيب فاره‏.‏

وقال‏:‏ ما أوتي رجل مثل غزيرة عقل فإن حرمها فطول صمت فإن حرمها فالموت أستر له‏.‏

وقال وقد سئل‏:‏ الأغنياء أفضل أم العلماء‏.‏

قال‏:‏ العلماء‏.‏

قيل‏:‏ فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر من الأغنياء يأتون أبواب العلماء قال‏:‏ لمعرفة العلماء بفضل الغنى وجهل الأغنياء بفضل العلم‏.‏

فصل امرؤ القيس وكان في زمن كسرى أنوشروان امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو الكندي واسم أمه‏:‏ تملك وقد ذكر في قوله حيث يقول‏:‏ ألا هل أباها والحوادث حمة بأن امرأ القيس بن تملك ينفرا أي ترك الحضر وسافر وهو من أهل نجد والديار التي يصف في شعره ديار بني أسد‏.‏

وكان قُباذ قد ملًك الحارث بن عمرو على العرب فملك ابنه حجرًا على بني أسد وكان يأخذ منهم شيئًا معلومًا فامتنعوا منه فسار إليهم فأخذ سراتهم فقتلهم بالعصي فسموا عبيد العصا‏.‏

وأسر منهم طائفة فيهم عبيد بن الأبرص ثم رحمهم وعفا عنهم وردهم إلى بلادهم‏.‏

ثم ملك أنوشروان فملك النعمان بن ماء السماء فهرب الحارث واتبعته خيل المنذر ففاتهم فأدركوا ابنه عمرًا فقتلوه ثم إنهم قتلوا حجرًا وكان حجر قد طرد ابنه امرأ القيس لأجل امرأة تشبب بها في شعره يقال لها‏:‏ فاطمة وتُلقب‏:‏ عنيزة وكان يعشقها فطلبها زمانًا فلم يصل إليها وكان يطلب غرتها حتى كان منها يوم الغدير ما كان بدارة جلجل فهو الذي يقول فيه هذا‏:‏ ألا رب يوم لك منهن صالح ولا سيما يوم بدارة جُلجُل وذلك أنه رأى نسوة يتمايلن في غدير فيهن عنيزة فأخذ ثيابهن وأقسم لا يعطيهن حتى يخرجن فيأخذنها فخرجن متكشفات فبلغ ذلك أباه فدعا مولى له فقال‏:‏ اقتل امرؤ القيس وائتني بعينيه‏.‏

فذبح شاة وأتاه يعنييها فندم حجر على ذلك فقال‏:‏ أبيت اللعن إني لم أقتله‏.‏

قال‏:‏ فأتني به‏.‏

فانطلق فرده إليه فنهاه عن قول الشعر ثم بلغه أنه قال‏:‏ ألا انْعِمْ صباحًا أيها الطلل البالي‏.‏

وطرده فبلغه قتل أبيه فقال‏:‏ ضيعني صغيرًا وحملني دمه كبيرًا ثم آلى أن لا يأكل لحمًا ولا يشرب خمرًا حتى يأخذ بثأر أبيه‏.‏

وخرج إلى قيصر فطلب النصر فعشقته بنت الملك فكان يأتيها وفطن بذلك الطماح بن قيس الأسدي وكان حجر قتل أباه فوشى به إلى قيصر فهرب امرؤ القيس فبعث قيصر في طلبه فأدركه دون أنقرة بيوم ومعه حلة مسمومة فلبسها في يوم صائف فتناثر لحمه وتقطع جلده فقال حين حضرته الوفاة‏:‏ وطعنة مسحنفره وجفنة مثعنجره تبقى غدأ بأنقره‏.‏

وهو آخر شيء تكلم به‏.‏

وكان امرؤ القيس قد ماتت أمه في صغره فأرضعه أهله بلبن كلبة فكان إذا عرق فاح منه ريح الكلب وكان النساء يبغضنه‏.‏

وتزوج امرأة فاستطالت ليلتها معه فقال‏:‏ ما تكرهين مني فقالت‏:‏ إنك ثقيل الصدر سريع الإراقة بطيء الإفاقة ريحك ريح كلب‏.‏

فطلقها‏.‏

وقال مؤلف الكتاب‏:‏ وقد روينا أن قومًا من اليمن أقبلوا يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلوا الطريق وأعوزهم الماء فإذا ركبٌ على بعير فأنشد بعضهم يقول‏:‏ ولما رأت أنَ الشريعَة قصدها وأن البياضَ من فرائضها دامي تَيَمًمَتِ العينَ التي عند ضارج يُفيءُ عليها الظل عَرْمَضُها طامي فقال الراكب‏:‏ مَنْ يقول هذا فقالوا‏:‏ امرؤ القيس‏.‏

قال‏:‏ ما كذب والله هذا ضارج عندكم‏.‏

فمشوا فإذا ماء عذب عليه العرمض فشربوا ولولا ذلك لهلكوا‏.‏

ولما وردوا أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ أحيانا الله ببيتين من شعر امرىء القيس‏.‏

فقال‏:‏ ذاك الرجل مشهور في الدنيا خامل في الآخرة مذكور في الدنيا منسي في الآخرة معه لواء الشعراء يقودهم إلى النار‏.‏

أخبرنا ابن الحصين قال‏:‏ أخبرنا ابن المذهب قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن جعفر قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ حدثنا هشيم قال‏:‏ أخبرنا أبو الجهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار‏.‏

قال مؤلف الكتاب‏:‏ واعلموا أن أوائل الشعر لم تكن إلا الأبيات اليسيرة يقولها الرجل عند حدوث الحاجة له فأول من ابتدع المعاني العجيبة والنسيب الدقيق مع قرب المأخذ‏:‏ امرؤ قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمأل كأني غداة البين يوم تحملوا لدى سمرات الحي ناقف حنظل وقوفا ًبها صحبي علي مطيهم يقولون لاتهلك أسىً وتجمّل وإن شفائي عبرة مهراقة فهل عند رسم دارس من معول أغرّك مني أن حبكِ قاتلي وأنكِ مهما تأمري القلب يفعل وما ذرفت عيناك إلا لتضربي بسهميك في أعشار قلب مُقتل وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بصدره وأردف أعجازًا وناء بكلكل ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبح وما الإصباح فيك بأمثل وله فيها يصف الفرس‏:‏ مكرٍ مفرٍ مقبلٍ مدبرٍ معًا كجلمود صخر حطه السيل من عل أدامَتْ على ما بيننا من نصيحة أميمة أم صارت لقول المخيب ولله عينا من رأى من تفرق أشت وأنأى من فراق المحصب غداة غدوا فينا إلى بطن نخلة وآخر منهم جازع فخد كبكب فإنك لم تقطع لبانة عاشق بمثل غدو أو رواح مؤَب وكان لكسرى أولاد فجعل الملك بعده لابنه هرمز‏.‏